في 21 نيسان\\إبريل، 2015 أعلن التحالف العسكري للدول العربية الذي تقوده السعودية أن "عملية عاصفة الحزم"، الحملة العسكرية ضد اليمن التي شُنّتْ في 25 آذار\\مارس، دخلت في طور جديد أكثر سلمية، تحت مسمى "إعادة الأمل". بعد ذلك بوقت قصير، ألقى الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي خطابه الأول للأمة من منفاه في المملكة العربية السعودية، مكرراً الكثير من التهم والإنذارات نفسها ضد الحوثيين. وقد استُؤنف القصف بعد ساعات فقط من إعلان التحالف، وبعد أكثر من أسبوع، لم يُظهر أي إشارات تباطؤ. ويبدو أن القليل قد تغيّر باستثناء إطلاق تسمية جديدة على الحرب لكن ما أكده هذا الطور الجديد هو أن أياً من المحاولات السعودية "لإحلال السلام" في اليمن (سواء خلف قناع "عاصفة إعادة الأمل" أو غيرها) من المحتمل أن تكون أكثر عنفاً واستمرارية من الحرب الحالية.
استخدمت المملكة العربية السعودية "عملية عاصفة الحزم" (والآن "عملية إعادة الأمل") كي تحدد فصلاً جديداً في تاريخها الخاص كقوة عسكرية وسياسية. وليس هناك شك بأن المملكة تخطط لتحقيق موقع هيمنة إقليمي مشابه لموقع الولايات المتحدة، إذا لم يكن بديلاً له. ويتبين لنا من "تحالف الراغبين" (والمرتشين) الذي رُقّع بسرعة، ومن حملات الحرب المسماة بطريقة مبالغ بها جداً، ومن المؤتمرات الصحفية اليومية التي يمكن أن يظنها المرء بيانات الناتو الموجزة حول أفغانستان، أن المملكة العربية السعودية صاغت نفسها ومظهر شخصيتها العسكرية على نمط مظهر الولايات المتحدة الأميركية. وربما كان ما يؤكد بشكل أكثر وضوحاً محاولتها لانتحال صوت الهيمنة الأميركي في المنطقة هو أنها موّهتْ نزعتها العسكرية العدوانية والأحادية بلغة الفضيلة. وتماماً كما شنّ الرئيس جورج دبليو بوش حربه على العراق باسم "الديمقراطية" و"الحرية"، استخدم الملك سلمان وابنه محمد وزير الدفاع وولي ولي العهد الذي يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً، لغة “الشرعية” لتبرير أفعالهما الوحشية في اليمن.
صارت فكرة"الشرعية" نفسها المجاز المحوري للحرب بحيث أنه في اليوم الذى بدأ فيه القصف، أعلن الناطق الرسمي باسم التحالف الذي تقوده السعودية، بثقة وغموض، أن المملكة العربية السعودية "تواصل تنسيقها مع الشرعية". وبما أن منافاة هذا التصريح للعقل بقيت دون تشكيك على نطاق واسع فإن فظاظة الدعاية لم يبد أنها قوضت مزاعمها. فبعد ساعات من شن "عملية عاصفة الحزم"، تبين أن المملكة العربية السعودية كانت تمتلك السلطة لإملاء سرد الحرب. فقد استخدمت المملكة لغة"الشرعية" كي تموّه سياسة القوة، وكي تفرض ثنائيات صارت مألوفة جداً منذ بداية "الحرب العالمية على الإرهاب”: الشرعية مقابل اللاشرعية، الدولة مقابل الإرهابيين، الصح مقابل الخطأ، والمملكة العربية السعودية والعرب مقابل إيران والسنة مقابل الشيعة ونحن مقابل هم. وبفعلهم لهذا، أحبط الحكام السعوديون أية إمكانية لخطاب سياسي بديل يرفض كلاً من هادي وشركائه السعوديين والتحالف بين الحوثيين وصالح، والعودة إلى مشروع إقامة دولة أكثر عدلاً وتمثيلاً.
وبينما أعلنت المملكة العربية السعودية قيادتها وشرعيتها على المسرح العالمي، استثمر النظام أيضاً بقوة في تبريرات الحرب في الوطن. وكما في البلدان الأخرى للتحالف العسكري، كان النظام السعودي صارماً في حماية عباءة الفضيلة على الجبهة المحلية. فقد فرضت المملكة العربية السعودية غرامات كبيرة وحكماً بعشرين عاماً من السجن على أي مواطن سعودي ينتقد الحرب. وتبعتها في ذلك بسرعة كل من البحرين والكويت والأردن ومن المحتمل دول أخرى في التحالف.
لكن بلدان التحالف لم تكن وحيدة في سعيها إلى تأمين دعم سكانها أو خضوعهم على الأقل، فالحوثيون وداعموهم، وجميع الفصائل التي لها حصة في السياسة اليمنية، كانوا لاعبين محوريين في حرب أطول من أجل الشرعية كانت تجري في اليمن؛ واحدة تسبق زمنياً "عملية عاصفة الحزم" وهيأت الأوضاع السياسية التي جعلت حرباً كهذه ممكنة.
الحركة الحوثية: من صعدة إلى صنعاء
إن حركة أنصار الله، أو المعروفة بشكل أفضل باسم "الحوثيين"، ادعت الشرعية أيضاً. فحين اندلعت الثورة في 2011، كان الحوثيون منخرطين لمدة عقد تقريباً في تمرد نَشِط في الشمال ضد نظام الرئيس السابق على عبد الله الصالح. لكنهم رموا أسلحتهم بسرعة واندفعوا إلى صنعاء في باصات محملة بالنساء والرجال كي ينضموا إلى حركة اللاعنف في ساحة التغيير. وطالبوا، مع المحتجين الآخرين، باستقالة صالح وإعادة بناء الدولة على خطوط أكثر مساواة. وشهدت فترة ما بعد الثورة أولاً انتخاب المرشح الوحيد لمن كان آنذاك نائب صالح، وهو هادي الذي واصل الحكم بعد انتهاء فترة العامين الخاصة به في شباط\\فبراير ٢٠١٤، وتبع ذلك مؤتمر الحوار الوطني. وكان مؤتمر الحوار الوطني عملية انتقالية توسّط لها مجلس التعاون الخليجي وقد دُعي إليه ممثلو جميع الفصائل السياسية اليمنية الرئيسية كي يشاركوا، رغم أن عدداً من قيادات حركة الحراك الجنوبي الانفصالية قاطعوا مؤتمر الحوار الوطني من البداية.
وفي الوقت الذي خُتم فيه اجتماع مؤتمر الحوار الوطني، اغتيل ممثلان حوثيان في المؤتمر وتم إخماد صوت حركة الشباب التي بدأت الثورة. وشجب كلٌّ من الحوثيين والانفصاليين الجنوبيين نتائج مؤتمر الحوار الوطني. أما الانفتاح السياسي الذي تم أثناء ثورة 2011 لتحويل الحكومة إلى واحدة أكثر عدلاً وتمثيلاً بدا كأنه انتهى. وبزغت المؤسسات السياسية التي أنشأها صالح لإدامة حكمه الاستبدادي سالمةً، وبدا كأن هادي نفسه يمضي معظم وقته في الحكم في مراكمة كميات هائلة من الثروة. أما الحوثيون، الذين بدوا وكأنهم استثمروا بشكل كبير في نتائج الثورة، فقد كانوا محقين في قلقهم من استعادة الوضع القائم الذي تم تهميشهم فيه سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
وهيأت ثورة 2011، ورفضها لحكم صالح، الأوضاع التي شعر فيها الشعب اليمني بأنه يمتلك المسوّغ لتحدي نظام سياسي استبدادي وهو قادر على ذلك. ومنحت الإطاحة بصالح والوعد الثوري بدولة ديمقراطية حقيقية اليمنيين من جميع المشارب والاتجاهات (وليس فقط النخبة السياسية التقليدية) إحساساً بامتلاك نظامهم السياسي والتطلع نحو الأمام. وقدّم هذا فرصة مهمة لاستراحة من الوضع القائم والسير نحو الأفضل. لكن فترة ما بعد الثورة شهدت قيام بقايا نظام صالح (بما فيه وكلاء المملكة العربية السعودية) بإدارة عملية انتقالية عرقلت بشكل مقصود أهداف الثورة ودعمت بنى سلطة النظام القديم. ليس من المفاجئ إذاً أن الحوثيين، بين آخرين، أعلنوا أن العملية الانتقالية ورئاسة هادي وحكومته فاقدون للشرعية.
كان يمكن أن يحظى الحوثيون بمصداقية في قيادتهم السياسية وذلك بسبب تجربتهم كمجموعة مهمشة، ورغبتهم الأولية في الوصول إلى تسويات عبر التفاوض، وإقامة تحالفات سياسية أثناء الثورة وفي فترة ما بعد الثورة مباشرة. لكنَّ بوادر الانفتاح السياسي تبددت حالما استولوا على السلطة. وبدلاً من ذلك، حكم الحوثيون عبر العنف والقمع منذ أن زحفوا إلى صنعاء في أيلول\\سبتمبر 2014 وكان هذا نعمةً لشرعية "عملية عاصفة الحزم" ودعماً لها، وللرئيس اليمني. وقد انتُقد هادي عالمياً بأنه قائد فاسد وغير فعال، لكنه مع ذلك يشغل منصباً عاماً يحترمه الناس. ومن ناحية أخرى، نُظر إلى الحوثيين، على نحو واسع، بأنهم استولوا بشكل غير قانوني على الدولة بميلشياتهم، التي تلقت الدعم من فصائل في الجيش ما تزال موالية لصالح. ومذاك ضيقوا الخناق على وسائل الإعلام واعتقلوا وخطفوا وعذبوا ناشطين سياسيين وأطلقوا الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين، وأعدموا معارضين سياسيين وعسكريين وسجنوا نصف قادة حزب الإصلاح تقريباً، ودزينات من الناشطين الشبان؛ وشنّوا حرباً شرسة في عدن ارتكبت أعمالاً وحشية ضد السكان المدنيين وحولت المدينة إلى حطام. وشلّوا وزارات الدولة ودمروا مؤسسات أخرى للدولة في رد قاس على الفساد مضاد للحكومة. وأنشأوا مناخاً من الإقصاء السياسي تهيمن عليه نزوات قادة حوثيين أفراد. وكان الأكثر إقلاقاً لكثير من اليمنيين، هو أن الحوثيين تبنوا أيضاً فكرة قيادة سياسية فاضلة تحكم باسم الله والدين وتدعو إلى العودة إلى نظام الأئمة. فيما إذا كان هذا، على غرار شعار الحوثيين "الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام"، يعكس الهدف السياسي الحقيقي أو بلاغة فحسب خاضع للجدل، لكن تأثيراته مع ذلك حقيقية.
إن الجريمة التي يُتهم بها الحوثيون هي لغتهم الطائفية وتهميشهم للسنة وترقية الشيعة الزيديين في جميع أجهزة الدولة والأجهزة العسكرية. وليس هناك شك بأنهم استهدفوا معارضتهم السياسية، والتي يصادف أن معظمها من السنة، بما فيه هادي وحكومته، وحزب الإصلاح الإسلامي وتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية. ومن الجلي أيضاً، أنهم رقوا في مراتب السلطة رجالهم، الذين كانوا زيديين بشكل غير مفاجئ. لكن تاريخ الحركة الحوثية هو تاريخ قبائل محافظة صعدة، وليس الزيديين في اليمن. إنها قصة اضطهاد سياسي واقتصادي وثقافي لا تختلف عن قصص تنبعث من أطراف اليمن الإقليمية الأخرى، بما فيه جنوب اليمن وحضرموت وتهامة. فقد استحدث صالح أشكالاً فريدة من القمع ضد هؤلاء السكان. وتخصص في تأليب منطقة أو مجموعة اجتماعية ضد الأخرى كي يضفي الغموض على مظالمهم المشتركة. واتهم نظام صالح الحوثيين بأنهم "عملاء إيران" ورفض مظالمهم الشرعية وعدّها مجرد مطية لاستعادة نظام الأئمة. وأُنفقتْ ملايين الدولارات القادمة من المملكة العربية السعودية في دعم جهود التبشير السلفي في أنحاء اليمن (خاصة في الشمال البعيد) وقد استاء من ذلك الزيديون في صعدة، وخاصة أن هذا ترافق مع حملة عسكرية وحشية ضدهم وقوة سياسية متنامية لحزب الإصلاح الإسلامي وتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية. وهكذا بينما لا يستطيع المرء الشك بالازدياد الحاد في الطائفية في اليمن في الأعوام القليلة الماضية، وبالتأكيد منذ أن زحف الحوثيون إلى صنعاء، يتساءل المرء عن الدرجة التي ينظر بها الحوثيون إلى أفعالهم كتعزيز للسلطة في أيدي عائلات وقبائل داعميهم بدلاً من كونها حملة مدفوعة إيديولوجياً و طائفية. ولأن المحسوبية القبلية صارت شكلاً تافهاً من الفساد استخدمته جميع النخب الحاكمة في اليمن، من المحتمل كثيراً أن التحدي الخطابي للوضع القائم السني هو الذي يجده اليمنيون منفراً وتحريضياً.
[خريطة لمحافظات اليمنز الصورة لجولباز من موقع ويكيميديا كمنز]
الحكومة اليمنية في المنفى
في غضون ذلك، بالكاد يستطيع الكثير من بقية العالم، وبينهم مواطنو البلدان التي هي جزء من تحالف "عملية عاصفة الحزم"، فهم التشابكات المعقدة والمتبدلة للسياسة اليمنية. وقد تبين أنهم جمهور يُلَقّن السرد القائل بأن الحوثيين يمكن أن يكونوا عملاء لإيران وأن الحرب صراع إقليمي على السلطة بين المملكة العربية السعودية وإيران، أو على نحو أسوأ، إذكاء لصراع قروسطي بين السنة والشيعة. وكان هادي وحكومته، أو أي شيء بقي منها، الداعمين الأكثر تلهفاً لسرد "الحرب بالوكالة هذا". وفي 12 نيسان\\إبريل ٢٠١٥، نشر هادي افتتاحية في صحيفة "النيويورك تايمز" اتهم فيها إيران بأنها مسؤولة بشكل مباشر عن الأزمة في اليمن. والقصة التي يرويها، والتي يدعمها النظام السعودي، هي أنه الرئيس “الشرعي” لليمن، المنتخب ديمقراطياً. وبحسب هذا السرد، إن الإيرانيين، كمحركين للدمى الحوثية، أطاحوا بحكومة هادي في محاولة للسيطرة على اليمن، البلد الذي له حدود طويلة غير آمنة مع المملكة العربية السعودية والتي يقدم موقعه الاستراتيجي في مضيق باب المندب تحكماً بكافة طرق الملاحة إلى قناة السويس. وقال أيضاً إن "عملية عاصفة الحزم" هي حملة مبررة قانونياً وأخلاقياً شُنَّتْ بدعوة من حكومة اليمن "الشرعية" فحسب. إن الدعم الحاسم الذي قدمه الرئيس المخلوع علي عبد الله الصالح وعشرات الآلاف من الجنود اليمنيين الموالين للحوثيين (في تحالف حديث غير متوقع) لا يخدم بشكل جيد سَرْد "دمية إيران"، لكنه غذاء لحجة افتقار الحوثيين للشرعية.
وفيما أقوم بتأليف هذا المقال، يواصل هادي "الحكم" من الرياض. ويفعل هذا عبر مراسيم الفيسبوك لـ "الجمهور" والممارسة الضعيفة للسلطة الرئاسية كي يوزع المناصب الوزارية بين داعميه الذين عثروا على طريقهم إلى المنفى في العاصمة السعودية. وبينما يضحك الجمهور اليمني ويبكي من عجز وسخافة "الرئيس الشرعي" لليمن، لعب هادي ونوابه دون شك دوراً حاسماً (على الأقل في البداية) في تطوير الاستراتيجية السياسية والعسكرية لـ "عملية عاصفة الحزم". ومن الغريب أن المملكة العربية السعودية وحكومة هادي لم تسلّطا الضوء بما يكفي على الدعم الذي قدمه الضباط اليمنيون في الرياض وبينهم بشكل رئيسي الجنرال على محسن. واضعين في الاعتبار أن الحملة العسكرية اعتمدت بشكل كبير على "الدعوة"، وتورط الحكومة اليمنية، لصد الاتهامات بأنها سلوك أحادي مخالف للقانون، فإن ما يشرح هذا الحذف بشكل أفضل على الأرجح، هو درجة حماس المملكة العربية السعودية لتبيان أنها تستطيع خوض الحروب بنفسها.
عنف الحرب والسلام
دخلت الحملة العسكرية الآن شهرها الثاني وسببت أزمة إنسانية كارثية في اليمن. فقد استهدفت المملكة العربية السعودية البنية التحتية المهمة (المطارات والطرق والمعامل ومحطات توليد الطاقة) في بلاد بالكاد تملك الإمكانية لصيانة بنية تحتية كهذه، ناهيك عن إعادة بنائها. هوجمت أهداف مدنية بينها مخيم للاجئين، ومستودع مؤن إنسانية لأوكسفام، ومحطات وقود ومدارس وأبنية سكنية، مما أدى إلى خسائر كبيرة. وفرضت الحملة حصاراً جوياً وبحرياً على بلاد أكثر من نصف سكانها لا يتمتعون بأمن غذائي وغالبية طعامهم، بما فيه كل مؤونتهم من الأرز والقمح مستوردة. وسبّب الحصار نقصاً في الوقود وأوقف جميع أشكال النقل. ويشل أيضاً تأمين المياه، ويهدد بانقطاع تام للاتصالات. ورغم الخسائر البشرية المتصاعدة والحياة اليومية التي تصبح غير قابلة للاستمرار، يدعم عدد مفاجئ من اليمنيين "عملية عاصفة الحزم". ذلك أن كثيراً من الناس، خاصة أولئك الذين جربوا الحرب مع الحوثيين في الجنوب، براغماتيون سياسياً في دعمهم لحملة عسكرية تستهدف خصومهم السياسيين. لكن كثيرين آخرين يتبنون وجهة نظر أقل تشكيكاً بدور السعودية في اليمن.إذ يرى البعض أن السعوديين "أخوة" في تاريخ طويل من التبادل الثقافي والديني والاقتصادي، وينظرون إلى المملكة العربية السعودية بأنها الحصن "العربي" ضد النفوذ الإيراني. ويقول الأقل عاطفية إن التدخل السعودي حميد بالمقارنة مع تدخلات أجنبية أخرى (الإيرانية)، لأن المملكة العربية السعودية مهتمة على الأقل بالسلام والاستقرار الإقليميين، ولو فقط من أجل مصالحها السياسية الخاصة.
إن درجة تدخل إيران في اليمن بعامة، وتأثيرها في الحوثيين بخاصة، كانا موضوعاً لجدل كثير. وبينما اعتمد الحكام السعوديون بصورة كبيرة على سرد يعدُّ الحوثيين دمى لإيران، فإن الصحفيين وممثلي حكومات أخرى، بما فيه الولايات المتحدة، عبّروا عن منظور أكثر تشكيكاً في درجة اتخاذ إيران للقرار في صنعاء. وبصرف النظر عن هذا، إن الجدل حول درجة وتأثير التدخل الإيراني في اليمن يبقى غير ذي صلة بنقد الحملة العسكرية السعودية لكنه، على نحو أسوأ، يخدم في حرف الانتباه بشكل متعمّد عن أكثر من نصف قرن من التدخل السعودي في اليمن والذي كان له تأثير أكثر ضرراً من تدخل أية قوة أجنبية أخرى. حتى مؤتمر الحوار القومي، والذي كان الهدف منه أن يكون نتاج ثورة أسرت قلوب وآمال الناس في أنحاء اليمن، استُخدم كأداة فحسب لتأخير عملية التغيير بينما دعمت المملكة العربية السعودية وحلفاؤها في اليمن سلطتهم ودعمت المؤسسات الاستبدادية التي أُنشئت في ظل صالح. مع ذلك ليس هناك جدل من أي نوع حول تدخل المملكة العربية السعودية طيلة عقود في الشؤون اليمنية وتمويلها للسياسيين اليمنيين من كل الأحزاب، بما فيه أولئك الذين في مستويات القيادة الأعلى. إن الأزمة الإنسانية الموجودة اليوم لم تولد من الحملة العسكرية، بل بالأحرى من نظام اقتصادي وسياسي أنشأه صالح ورعته المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية ومدّ في عمره هادي وفاقمه الحوثيون. وقبل أن تسقط أول قنبلة، كان اليمن يواجه أزمة مياه لا يمكن احتواؤها، ويعاني من اقتصاد مشلول، وحكومة مركزية مفلسة، ومجاعة تحوم في الأفق. وكان دور المملكة العربية السعودية في شل الاقتصاد والحفاظ على نظام سياسي فاسد وغير فعال جلياً. فضلاً عن ذلك، إن استناد الحملة العسكرية من جانب واحد، التي شنتها المملكة العربية السعودية، إلى فرضية مساعدة الشعب اليمني، وحماية سيادة اليمن، ومصارعة "التدخل الأجنبي" في شؤونه لهو أمر مأساوي ينطوي على مفارقة كبرى.
النصر السعودي، الخسارة اليمنية
وبينما من المحتمل أن المملكة العربية السعودية شنت "عملية عاصفة الحزم" متوقعة أن قصفها الهادف إلى إحداث الصدمة والرعب سيؤدي إلى استسلام سريع وحاسم من قبل الحوثيين وحليفهم صالح، فإن الحملة بدأت بالمرور في سيرورة إطلاق تسمية جديدة عليها. في غضون ذلك، لم يستسلم الحوثيون. ومن غير الواضح أن المملكة العربية السعودية ستخرج "منتصرة" من اليمن رغم تصريحها بالنصر في بداية "عملية إعادة الأمل". ومن المحتمل أن تبزغ المملكة العربية السعودية متعبة ومهزومة. أو ربما بشكل أكثر شؤماً ستسير حملة المملكة العربية السعودية على خطا سمّيتها، "عملية إعادة الأمل" الأصلية، وهي الحملة العسكرية التي شنتها أميركا في الصومال، والتي لُبِّست رداء اللغة الفاضلة لـ "التدخل الإنساني". وكمثل المملكة العربية السعودية اليوم، سعت الحكومة الأميركية إلى استخدام “عملية إعادة الأمل” كـ "مثال" على قيادتها العسكرية العدوانية، لكن القوات الأميركية غرقت في مستنقع الصراع وانتهت الحملة بشكل سيء، مما ترك الصومال مدمرة والولايات المتحدة مخفقة عسكرياً مرة أخرى.
مر خمسون عاماً تقريباً على غزو المملكة العربية السعودية ومصر لليمن لتنصيب نظام من اختيارهما. وتتوجت حرب الستينيات تلك بهزيمة نظام الأئمة الزيدي المدعوم من السعودية، وانتصار النظام الجمهوري في اليمن الشمالي، وإعادة تأكيد التفوق السياسي والعسكري للقومية العربية الناصرية (مهما كان ذلك النصر قصير الأمد). لقد تبدلت السلطة والتحالفات مع مرور الوقت، لكن الدافع للتدخل بقيَ نفسه. وبعد عقود من تغذية الإسلام السياسي كحصن ضدّ القومية العربية الناصرية وإيديولوجيات يسارية أخرى، بزغت المملكة العربية السعودية كمنتصر قوي. وبدلاً من عقد صفقات سياسية خلف الأبواب المغلقة، وتمويل الوكلاء المحليين، أو إرسال جيوش من البعثات التبشيرية الدينية والثقافية والمبعوثين، تقول المملكة العربية السعودية للعالم اليوم إنها تؤكد قوتها بشكل جلي وبسلطة لا تستطيع إلا الشرعية أن تمنحها.
إذا استطاعت السعودية أن تحقق "النصر" في هذه الحملة، فإن سيطرتها على اليمن التي فرضتْها في العقود القليلة الماضية، والتي سعت للحفاظ عليها في أعقاب فترة ثورة 2011، ستتدّعم بسلوك عدواني واستحقاق و"شرعية" لم تحصل عليهم من قبل أبداً. وتفكر المملكة العربية السعودية بـ “خطة مارشال خاصة باليمن” واحتمالات إدخال اليمن في عضوية مجلس التعاون الخليجي كتعويض عن القضاء على مغامراته العسكرية الحالية. وسيترسخ النظام الاستبدادي الذي دعمته المملكة العربية السعودية طويلاً والذي سعت إلى إنقاذه في عملية الانتقال بطرق لم يترسّخ بها نظام صالح أبداً. وبينما يمكن أن يبدو احتمال أموال النفط ووظائف مجلس التعاون الخليجي مغرياً لبلاد جائعة أنهكتها الحرب، فإن "عملية إعادة الأمل" هي مذكّر آخر بأن المملكة العربية لم تكن أبداً وسيطاً نزيهاً للسلام والرخاء في اليمن، بل كانت تكمن في ظلال صراعات اليمن التي كانت تضعفه أكثر. وفي سيناريو الحالة الأفضل، حين تتوقف الصواريخ عن الانطلاق وتنتهي مفاوضات وقف إطلاق النار في عمان أو في أي مكان “محايد”، سيكون على اليمن أن يتعامل مع نتائج مقايضة ميليشيا متمردة لا تتمتع بالشعبية وخارج السيطرة بسيطرة صارمة من قوة إمبريالية فعلت دوماً كل ما في وسعها لإخضاع وإضعاف الدولة اليمنية. وكما دائماً، سيدفع ثمن السلطة الشعب، بآماله وحيواته.
[ترجمة: أسامة إسبر. اضغط/ي هنا للاطلاع على النسخة الانجليزية ]